Site icon أمتي

سلسلة الإعجاز البياني في القرآن الكريم 3

عبد العزيز

في الحياة مرادفات وتمايزات، تضادات أياً كانت تسميتها، خير وشر، صعود وهبوط، طريق وسبيل، بصر وبصيرة، لكل كلمة معنى ولكل موقع لها معنىً آخر، فكيف وإن كان القرآن الكريم يحوي منذلك الكثير، وحظي باهتمام كبار العلماء إلى يومنا هذا لما فيه من أسرار بلاغية وبيانية ونحوية بالطبع.

التدبر في آيات الكتاب العزيز.. إعجاز لا حصر له

بقلم /أ/عبد العزيز بدر القطان*

يتأنق القرآن الكريم في اختيار ألفاظه، ويضعها في الموضع الذي تؤدي فيه معناها بدقة، بحيث لا يصلح فيه سواها؛ ولذلك لا نجد في كتاب الله العزيز ترادفاً، بل كل كلمة تحمل معنى جديداً، ولا نجد في القرآن كلمة معيبة من حيث صورة اللفظ، (حروفه، وحركاته، وسكناته)، ولا استعماله، وكذلك لا نجد فيه لفظاً قلقاً مضطرباً أو نابياً في موضعه، هذا ما سنستعرضه في هذا الجزء الجديد من سلسلة التدبر القرآني إعجازاً لغوياً وبيانياً وتفسيرياً.

قال ابن عطية: (كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد، ونحن تبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام)، ابن عطية “أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن تمام بن عطية بن خالد بن عطية المحاربي الأندلسي 1088 – 1146″، وتحقيقاً لانتقاء الألفاظ وعذوبتها في القرآن، فإن القرآن يعمد إلى تهذيب ما قد يعاب من الألفاظ إذا دعا داعٍ بلاغي لوروده (اللفظ) فيه؛ ولهذا نرى في القرآن كلمات وألفاظاً يشهد الذوق بحسنها؛ لأنها هذبت ووضعت وضعاً محكماً، بينما تراها في غير القرآن معيبة شاذة، قال تبارك وتعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى)، جاءت مناسبة الفاصلة التي قبلها والالتئام معها؛ فالفاصلة التي قبلها تنتهي بالألف المقصورة (الأنثى)، فلو وضعت كلمة (جائرة) وهي قسيمتها في الدلالة، لفاتت المناسبة وحسن الجوار، وضاع الالتئام والتناسق الصوتي، أيضاً، جاءت تعليقاً على سلوك معيب، وهو جعلهم الإناث لله سبحانه وتعالى والذكور لهم، فاختير لهم اللفظ القبيح عندهم والغريب.

أيضاً لدينا استعمال الخبر بمعنى الإنشاء والفوائد المترتبة على ذلك، لكن قبل ذلك يتوجب معرفة الخبر والإنشاء في اللغة، قال ابن فارس: (الخاء والباء والراء أصلان: فالأول العلم، والثاني يدل علي لين ورخاوة وغزر فالأول: الخبر: العلم بالشيء، تقول: لي بفلان خبير وخبر، والله تعالى الخبير أي العالم بكل شيء، قال تعالى: “ولا ينبئك مثل خبير”، والأصل الثاني: الخبراء وهي الأرض اللينة).

ابن فارس: (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي لُغَوِيّ وإمام في اللغة والأدب، توفي 1004).

والإنشاء لغةً: الإحداث  والارتفاع، بينما الخبر والإنشاء اصطلاحاً: : الخبر: ما احتمل الصدق والكذب، وما عداه فهو الإنشاء، وفي تعريفهما كما قال الإمام الغزالي: (وهو أولي من قولهم: يدخله الصدق والكذب إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلاً، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلاً)، قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، لقد اشتهر في القرآن الكريم استعمال الخبر بمعنى الإنشاء، وقد أورد أبو حيان في هذه الآية قولين اثنين:الأول: أنها خبر لفظاً ومعنى، قال: (وقيل: هو أمر لفظاً ومعنى على إضمار اللام أي، ليتربصن وهذا على رأي الكوفيين)، أما الأمر الثاني، أنها خبر لفظاً أمر معنى، قال: (وصورته صورة الخبر وهو أمر من حيث المعنى)، والأدق، القول الثاني، لأن فيه إنزالاً للكلام على صورة لا نحتاج معها إلى تقدير محذوف أو مضاف، أضف إلى ذلك أن العرب تستعمل هذا الأسلوب، وهذا ما رجحه جمهور المفسرين، وفي ذلك قال الإمام الطبري: (فأوجب تعالى ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة تربص ثلاثة قروء)، بالتالي، ويمكننا أن نستخلص من التعبير بالخبر في مقام الإنشاء في الآية الفوائد التالية :(تأكيد الأمر والاهتمام به، والإشعار بأن هذا الأمر مما تجب العناية به، وبيان حال المؤمنين الصادقين وذلك أنهم إذا جاءهم الأمر من الله امتثلوا).

الإمام الغزالي: (حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، الطوسي النيسابوري أحد أشهر علماء المسلمين، توفي 1111)، أبو حيان: (العلامة محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، أثير الدين، أبو حيان، الغرناطي الأندلسي، فقيه إسلامي، 654 هـ)، الإمام الطبري: (إمام المفسرين، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الططبري، مفسّر ومؤرّخ وفقيه، 839 – 923).

لدينا أيضاً، استعمال الإنشاء بمعنى الخبر والفوائد المترتبة على ذلك، ذكرنا فيما سبق استعمال الخبر بمعني الإنشاء، وسنتكلم هنا عن استعمال الإنشاء بمعنى الخبر فهو أسلوب يمثل جانباً مهماً من جوانب بلاغة القرآن الكريم، قال تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون)، اختلف المفسرون في المراد من هذا الأمر في الآية الكريمة، منهم من رأى أن هذا خبر عن حال المنافقين في الدنيا والآخرة، ذكر ابن عطية أن قوله :(فليضحكوا قليلا) إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله :(وليبكوا كثيرا) إشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويرى القاسمي في (فليضحكوا قليلا)، أي ضحكاً قليلاً، أو زماناً قليلاً غايته مدة حياتهم (وليبكوا كثيرا) أي بكاء، أو زماناً كثيراً بعد الموت، أبد الآباد، هذا يعني أن الأمر هنا بمعنى الخبر والفائدة من استعمال الإنشاء بمعنى الخبر في هذا الموضع إخراج هذا الأسلوب في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به، وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه  لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر، أمر بمعنى الخبر، لكن الضحك والبكاء يكون في الآخرة، فهذان الأمران معناهما الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، وإنما جئ بهما على لفظ الأمر لدلالة على أن ذلك أمر محتوم لا يكون غيره.

الشيخ القاسمي: (جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي. إمام أهل الشام، في زمانه، في علوم الدين وفنون الأدب).

الرأي الثالث، وهو قريب من القولين السابقين ولكن جعل الضحك والبكاء في الدنيا قال الأستاذ محمد رشيد رضا: (في هذا الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء وجوه: أحدهما، وهو المختار عندنا، أن هذا هو الأجدر بهم بل الواجب عليهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف والخلاف من أجر، وما سيحملون في الآخرة من وزر وما يلاقون في الدنيا من خزي وضر فهو خبر في صيغة أمر نكتته أنه أمر مبني على واجب مقرر)، في حين أن الرأي الرابع، أن الأمر هنا أمر تكوين كقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، أي كن قارئاً بعد إذ كنت أمياً باسم الله مبلغاً عنه، والمعنى على هذا: فليكونوا بقدرتنا وتقديرنا قليلي الضحك كثيري البكاء لأن سبب سرورهم وفرحهم بتخلفهم ونفاقهم قد زال وأعقبهم الفضيحة والنكال، بالتالي، والذي يظهر أن في الأقوال التي نثبت ضحك الكفار في الآخرة نظراً، لأنه لم يرد عنهم الضحك في مواقف القيامة حيث أنهم لا يلاقون هناك إلا الذل والهوان والصغار، والضحك لا يتناسب مع هذا كله، فالذي نؤيده ونرجحه أن الإنشاء في هذا الموضع يراد به الخبر وأن الضحك هو ضحكهم في الدنيا ويناسبه وصفه بالقلة التي هي عنوان الانقطاع كما أن البكاء في الآخرة الدائمة وهو المناسب لوصف الكثرة.

محمد رشيد رضا: (أحد أهم رواد النهضة الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر، صاحب مجلة المنار، 1865 – 1935).

أخيراً، من فوائد استعمال الخبر بمعنى الإنشاء تأكيد الأمر المخبر عنه والإشعار بأنه يجب المسارعة  إلى امتثاله، وبيان حال المؤمنين عند سماع التكاليف والأوامر، ومن فوائد استعمال الإنشاء بمعنى الخبر الدلالة على تحتم وقوع الأمر وأنه مفعول لا محالة، والناظر في هذا الكتاب العزيز بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز، البلاغة والفصاحة في كل آية وكل جملة وكلمة من كلماته مما يؤكدان وجوه الإعجاز البياني لا يمكن حصرها.

*كاتب ومفكر – الكويت.

Exit mobile version