أحلام فقدت
بسم الله الرحمن الرحيم
إن سألتها عن ألمها لن تجيبك بتلك الأبجدية التي تعرفها، بل ستكتم صرخة توقفت عند حدود الشفاه..وكأنها لن تغادرها أبداً بعد أن اعتادت أن تتيبس هناك بصمت ووحدة..عندما كانت صغيرة بدا لها صعباً أن ترفض الواقع من حولها، بالنسبة لها أن تصدّق أنك ما زلت هنا باقٍ فوق أرضك يعد تحدٍ وإصرارٍ بل أسطورة الحياة، إن استطاعت أن تطلق عليه لفظ الحياة كما هو متعارف عليه في القواميس البشرية، التي تصوغ المعاني كما تعايشه لا كما يعانيه البعض ممن نفتهم أبجدية اللغة وأبنائها..إنها من تلك الفئة التي كتب عليها أن تعاني وتعاني ويكفيها فخراً أن تكون من أولئك الصامدين المدافعين عن حقوق أمة كاملة..أمة لا تعرف فحوى هذه الكلمة إلا أنها تعني بشراً يكفيهم التأوه لوجع أهدابها حيناً، والتصفيق لجنائز تمر يومياً من تحت ستار الحياة التي يعرفونها.
حملت هموم أناسٍ من تلك الأمة..عاشوا في إطار أرض مغلقة لا تعرف على خارطة العالم.. أحقاً لهم هموم أولئك الذين يعيشون خلف حدود معاناتها، أم أن حدودها ضيقة متلاشية لا تكاد تبدو على خارطة البشر..كانت تزحف بصمت بحثاً عن أشلاء والديها منذ سنوات خلت حين أعلن العالم المتحضر أن آوان الموت قد حلَّ على بلادها،حين اشترك الجميع في تدمير طفولتها والدوس على روحها قبل أن تسجد الحجارة على جثث عائلتها.. طفلة تقلب معاني الموت الصامت بعد أن حولها لمسنة تدرك الفرق بين أنفاس الحياة وحشرجات الموت..سنوات مرت على بحثها عن تلك الأشلاء بين ركام الحقد الصهيوني، بعد أن كانت تتغنى بأناشيد الطفولة في عنبر المدرسة وتهتز طرباً لأغنية معروفة..علموها أن تتغنى بطفولة مفقودة في تلك العنابر الضيقة بينما كانت جدائلها الصغيرة تتدلى لتذكرها بمقولة والدها وهو يقودها الى المدرسة:اللهم سترك يا الله..أتراه يخاف المجهول أم أنه كان مدركاً لمستقبل ابنته الوحيدة..لم تكن تدرك لماذا تبتسم لها المعلمة حينما لا ترفع الصوت بنشيد الصباح،عليها أن تردده كاسمها مرفقاً بابتسامة لصورة شهيد غادر البارحة..إنه الشهيد وعليها أن تبتسم لمجرد وجود ذاك الاطار الذهبي لصوره المزروعة في باحات المدرسة..لربما كان طفلاً مثلها أو معلماً أو والداً لصديقها..مرت سنوات منذ أن أدركت أن ذاك الإطار الذهبي هو نفسه من أحاط أهلها في لحظات إلى إطار لا تذكر منه إلا بقايا الثياب المتناثرة..فوقفت المدرسة لهم أيضاً ..لن يذكرهم إخوانها العرب لأنهم ليسوا إلا أرقاماً وسط ملايين الضحايا الذي خلفهم ذاك الاطار المقيت الذي يشير لجنازة جديدة .
أتراها تذكر ملامح والديها أم أن الحرب قد أنستها حتى ما بقي لها من دفء الذكريات..بسمة والدتها كأنها ظلال خفية تتراءى لها بين الفينة والأخرى لتذكرها أن لها قلباً ينبض كباقي البشر بالمشاعر والأحاسيس. ذاك الإطار يبدو لها كالشيطان الماثل أمام ناظريها دوماً..لا ينفع أن تمحوه فصور الدمار المستمر من حولها يوقظ فيها رغبة لتحطيمه وقذفه بعيداً عن غزة وأهلها…ولكن هل هناك جحيم يفوق هذا الواقع الذي تعيشه، غدا البحث عن مأوى يحميها فقط من الريح والبرد..فالأمان عملة نادرة في فلسطين..لا تدري كيف لقلة أن تركع للعدو وترضى أن تحمل خنجر الغدر لتزرعه في جسد الوطن فلم تبق منه حتى الفتات…كيف لهم أن يخونوا الجار والصديق بأبخس الأثمان.
أمتها ترقب من بعيد لتتصفّح أوراق التاريخ عبثاً،وكأنها تبحث عن مخرج لأزمة سكر أو ارتفاع لأسعار السلع أو لدولار حلق وخطف وجوهاً كما لم تخطف صور الشهداء ..أتراه الزمن المشوّه الذي يحرم طفلة من رحيق الحياة فيجعلها شريدة ذليلة وسط أكوام النفايات، عن أي حل يتحدثون غير السلاح..ألا يرون بشاعة العدو وملايين الشهداء وقد أضحوا تحت التراب.. لن تحتمي بتلك الجدران المتهاوية فما الذي يضمن لها ألا تفتح عينيها على التراب يغطي ما تبقى من جسدها بعد أن ضاق بها العالم..أيعقل أن طفولة غزة تؤجج نيران حقدهم.
الزمن لا يعني لها شيئاً إلا عندما يتوقف لتسكت جوع أحشائها بفتات ما تجوده المنح .. بعين الحرقة صوبت أهدابها نحو السماء فقلبها ما زال يحتفظ ببعض الايات لتترجمها بدعوة لسان خافتٍ..لن ينسيها حزنها ذلك الخائن الذي قدم والديها قرابين لينال فتاتاً من المال وفي ظنهم أنهم سيخلدون في الأرض ولن يقفوا أمام خالقهم يوماً، ليسألهم عن معنى أن تستل سكيناً لتذبح أخاك.. يكفيها أنها حينما تنطق أهدابها نحو السماء تتعلق بلفظها المحبب تأتيها السكينة والأمان..وكأن هناك من يناديها من أحبة سبقوها وذاقوا لذة الرحيل للجنان.. قد آن لك أن توافينا كزهرة عطشى فاشتاقت لترتوي من حوض الجنان..فلا تحزني فإنما يوفى الصابرون أجرهم..وما النصر إلا صبر واحتساب..ولن تكون غزة إلا ميداناً لنزاع الحق والباطل لتشهد النصر القريب إن شاء الله.
أسماء عبد الهادي القادري – لبنان 4/12/2022